فصل: (فرع: إباق العبد لا يبطل الإذن له)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: اختلفا في النهي عن شراء عبد]

وإن اشترى العامل عبدا، فقال رب المال: كنت نهيتك عن شرائه، وأنكر العامل النهي.. فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأن الأصل عدم النهي، ويكون العبد في القراض.

.[فرع: استقراض العامل لإكمال مال المقرض]

قال الشافعي في " أمالي حرملة ": (وإذا دفع إلى رجل إلى مائة درهم قراضا، فتصرف فيها، فخسر خمسين، فقال لصديق له: أقرضني خمسين لأضمها إلى ما معي؛ ليرى ذلك رب المال ولا ينزعها مني، فإذا ترك المال في يدي.. رددت الخمسين إليك، فأقرضه خمسين، وأضافها إلى الخمسين التي بقيت معه، فلما حمل المال إلى رب المال.. أخذ رب المال المائة، وفسخ القراض، فادعى المقرض: أن له في المال خمسين أقرضه إياها، وأنه يستحق أخذها، وأقام على ذلك بينة.. لم يكن له أخذ الخمسين؛ لأن المستقرض ملكها، وزال ملكه عنها إلى رب المال، فصار بمنزلة ما لو تلفت في يده، ويكون حق المقرض في ذمة العامل).

.[فرع: تراجع العامل عن قوله ربحت]

فإن قال العامل: ربحت في المال ألفا، ثم قال بعد ذلك: غلطت، فظننت أني ربحت ذلك، ثم نظرت في الحساب، فلم أكن ربحت، أو قال: أظهرت ذلك خوفا من أن ينتزع المال من يدي.. لم يقبل رجوعه؛ لأنه تعلق بذلك حق رب المال، فلم يسقط برجوعه، كما لو أقر لغيره بدين، ثم رجع عنه.
فإن قال: قد كان حصل في المال ربح، ثم تلف.. قبل قوله؛ لأنه أمين، فقبل قوله في التلف.
قال أبو علي في (الإفصاح): وإنما يقبل قوله هاهنا في الخسران إذا كان قد تصرف فيه بعد ذلك، وإن لم يتصرف وكان السعر بحاله.. لم يصدق.

.[فرع: اختلفا في المال قرضا أو قراضا]

قال الطبري في (العدة): وإن دفع إلى رجل مالا، فتلف في يده، ثم اختلفا، فقال رب المال: دفعته قرضا، وقال القابض: بل أخذت قراضا، وأقام كل واحد بينة.. فبينة العامل أولى في أحد الوجهين، خلافا لأبي حنيفة.
وقال الطبري: ولو قارضه على نقد، ثم تصرف العامل فيه، ثم أبطل ذلك النقد.. فالظاهر من المذهب: أنهما متى أرادا المفاصلة.. أنه يرد مثل النقد الذي عقدا عليه القراض، ثم يقتسمان الباقي.
وقال بعض أصحابنا: يرد من النقد الحادث. حكاه أبو علي السنجي، والأول أصح. وبالله التوفيق.

.[باب العبد المأذون له]

لا يجوز للعبد أن يتجر بغير إذن مولاه؛ لأن منافعه مستحقة لمولاه، فلا يجوز إبطالها عليه بغير إذنه، فإن رآه المولى يتجر، فسكت عنه، ولم يأمره، ولم ينهه، لم يصر مأذونا له في التجارة.
وقال أبو حنيفة: (يصير مأذونا له).
دليلنا: أنه تصرف يفتقر إلى الإذن.. فلم يقم السكوت مقامه، كما لو باع الراهن الرهن والمرتهن ساكت.
وإن باع العبد شيئا بغير إذن مولاه.. لم يصح؛ لأنه مال لسيده، فلم يصح بيعه بغير إذنه، كمال الأجنبي.
وإن اشترى العبد شيئا في ذمته، أو اقترض شيئا.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
(الأول): قال أبو إسحاق، وأبو سعيد الإصطخري: لا يصح؛ لأنه عقد معاوضة، فلم يصح من العبد بغير إذن سيده، كالنكاح.
و(الثاني): قال أبو علي بن أبي هريرة، وغيره: يصح؛ لأنه محجور عليه لحق غيره، فصح تصرفه بثمن في ذمته، كالمفلس، وفيه احتراز من السفيه.
فإذا قلنا: يصح الشراء والقراض.. قال ابن الصباغ: فللبائع والمقرض الرجوع فيه إذا كان في يد العبد؛ لأنه قد تحقق إعساره، وإن كان قد تلف في يده.. رجع عليه بالثمن وعوض القرض إذا أعتق وأيسر، وإن كان السيد قد قبضه.. فقد ملكه، وليس للبائع والمقرض الرجوع فيه؛ لأن السيد أخذ ذلك، وله أخذه، فسقط حق البائع والمقرض، كما يسقط حق البائع ببيع المبيع ورهنه، ويكون للبائع أو المقرض العوض في ذمة العبد إلى أن يعتق ويوسر.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن المبيع يدخل في ملك السيد، فإن علم البائع برقه.. لم يطالبه بشيء حتى يعتق، وإن لم يعلم برقه، ثم علم.. فهو بالخيار: بين أن يصبر إلى أن يعتق، وبين أن يفسخ البيع، ويرجع إلى عين ماله، ولم يفرق: بين أن يقبضه السيد من العبد، أو لم يقبضه.
وإن قلنا: إن الشراء والقرض فاسدان.. فإن البائع والمقرض يرجعان في العين إذا كانت باقية، سواء كانت في يد العبد أو في يد السيد؛ لأن ملكهما باق عليها. وإن كانت تالفة، فإن تلفت في يد العبد قبل أن يقبضها السيد.. رجع عليه البائع والمقرض ببدلها إذا عتق وأيسر، وإن قبضها السيد.. فالبائع والمقرض بالخيار: بين أن يرجع على السيد ببدلها في الحال، وبين أن يصبر إلى أن يعتق العبد ويوسر، فيرجع عليه.

.[مسألة: اتجار العبد بإذن مولاه]

وإن اتجر العبد بإذن المولى.. صح؛ لأن المنع منه لحق المولى، فزال بإذنه، فإن حصل عليه ديون في المعاملة، فإن كان في يده مال.. قضيت منه الديون، وإن لم يكن في يده شيء.. فإن الديون تكون في ذمته تتبع به إذا عتق وأيسر، ولا تتعلق برقبته ولا بذمة السيد، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (يباع العبد فيه إذا طالب الغرماء ببيعه).
وقال أحمد: (تتعلق بذمة السيد).
ودليلنا على أبي حنيفة: أن دين ثبت على العبد برضا من له الدين، فوجب أن لا يتعلق برقبته، كما لو استقرض بغير إذن سيده.
وليلنا على أحمد: أن السيد لا يضمن عن عبده، وإنما أذن له في التجارة، وهذا لا يوجب ثبوت ذلك في ذمة السيد، كالمرتهن إذا أذن للراهن بالتصرف في الرهن.

.[مسألة: يتصرف العبد بما أذن له فيه]

ولا يتصرف العبد المأذون له إلا على حسب ما أذن له فيه سيده، فإن دفع إليه مالا، وقال له: اتجر فيه.. كان له أن يبيعه، ويشتري بثمنه.
وإن أذن له: في التجارة مطلقا.. فهل يصح؟ فيه وجهان، حكاهما في (العدة):
أحدهما: يصح؛ لعموم إذنه.
والثاني: لا يصح، وهو اختيار أبي طاهر؛ لأن الإطلاق مجهول، فلم يصح، كالوكالة.
وإن أذن له أن يتجر بذمته.. فهل يصح؟ فيه وجهان، الصحيح: أنه يصح. وإن أذن له في التجارة في صنف من المال.. لم يتجر في غيره.
وقال أبو حنيفة: (يجوز).
دليلنا: أنه تصرف مستفاد بالإذن من جهة الآدمي، فكان مقصورا على ما أذن فيه، كالمضارب، وفيه احتراز من الصبي إذا بلغ، فإنه تصرف مستفاد بالشرع.
وإن أذن له في التجارة.. لم يملك أن يؤاجر ما اشتراه للتجارة، ولا أن يؤاجر نفسه، ومن أصحابنا من قال: له أن يؤاجر الأعيان التي اشتراها للتجارة.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يؤاجر نفسه).
والأول أصح؛ لأن المأذون فيه هو التجارة، والإجارة ليست من التجارة. وعلى قول أبي حنيفة: إنه عقد على نفسه، فلا يملكه بالإذن في التجارة، كالبيع، والنكاح.

.[فرع: تصرف العبد في مال التجارة غير مطلق]

ولا يبيع بدون ثمن المثل، ولا بنسيئة، ولا بغير نقد البلد، ولا يسافر بالمال من غير إذن السيد؛ لأن تصرفه لغيره بإذنه، فهو كالوكيل، ولا يجوز له أن يتخذ دعوة، ولا يهب بغير إذن سيده.
وقال أبو حنيفة: (يجوز ذلك).
دليلنا: أنه تبرع بمال مولاه من غير إذنه، فلم يصح، كمال سيده الذي في يده.

.[فرع: ادعاء العبد الإذن بالتجارة دون بينة]

إذا زعم العبد: أن سيده أذن له في التجارة.. فليس لأحد معاملته حتى يعلم الإذن.
وقال أبو حنيفة: (يجوز).
دليلنا: أن الأصل عدم الإذن، كالراهن إذا ادعى: أن المرتهن أذن له في بيع الرهن.
وإن زعم العبد: أن سيده قد حجر عليه، وقال السيد: لم أحجر عليه.. لم يصح تصرف العبد.
وقال أبو حنيفة: (يصح).
دليلنا: أن الاعتبار بالمتعاقدين، والعبد يزعم: أنه لا يصح عقده، فهو كما لو قال: أبيعك هذه العين وإن كنت لا أملكها.

.[فرع: إباق العبد لا يبطل الإذن له]

إذا أبق العبد المأذون له في التجارة.. لم يبطل إذن سيده له.
وقال أبو حنيفة: (يبطل).
دليلنا: أن الإباق معنى لا يمنع من ابتداء الإذن في التجارة، فلم يمنع استدامته، كما لو غصب أو حبس بدين عليه.

.[فرع: شراء العبد المأذون من يعتق على سيده]

وإن اشترى العبد المأذون له في التجارة من يعتق على سيده، كوالده، أو ولده.. نظرت:
فإن كان السيد قد نهاه عن شرائه.. لم يصح شراؤه، قولا واحدا، سواء كان عليه دين أو لم يكن؛ لأنه يملك التصرف بإذنه، فلا يملك ما نهاه عنه.
وإن أذن له السيد في شرائه.. صح شراؤه، كما لو اشتراه السيد بنفسه.
فإن لم يكن على المأذون له دين.. عتق عليه، وإن كان عليه دين.. فهل يعتق عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يعتق عليه؛ لأن حقوق الغرماء تعلقت بماله، فصار كالمستحق لهم.
والثاني: يعتق عليه، ويغرم السيد قيمته للغرماء إن كان موسرا بها؛ لأنه ملكه، فعتق عليه، وإن كان معسرا بها.. لم يعتق عليه؛ لأن عتقه يؤدي إلى الإضرار بالغرماء.
وإن اشتراه العبد بغير إذن سيده من غير أن ينهاه عنه.. فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح، وهو الصحيح؛ لأن إذن السيد تضمن شراء ما فيه حظ ويمكنه التجارة فيه، ولا يتناول من يعتق عليه، كالعامل في القراض إذا اشترى من يعتق على رب المال.
والثاني: يصح الشراء؛ لأن الشراء لا يصح من العبد بنفسه وإنما يشتري بإذن سيده، فإذا أذن له في الشراء.. تناول شراء كل ما يملكه السيد بنفسه، ويفارق العامل في القراض، فإن يصح له أن يشتريه لنفسه، ويصح لرب المال، فلم يصح في حق رب المال إلا ما تضمنه إذنه.
فإذا قلنا بهذا: فإن لم يكن على المأذون له دين.. عتق العبد، وإن كان عليه دين.. فهل يعتق العبد؟ قال الشيخ أبو حامد: ينظر فيه.
فإن كان السيد معسرا.. لم يعتق، قولا واحدا.
وإن كان موسرا بقيمته.. فهل يعتق؟ فيه قولان، كالمرهون.
فإذا قلنا: يعتق.. غرم السيد قيمته للغرماء.
وأما ابن الصباغ: فقال: إذا كان على المأذون له دين.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يبطل الشراء؛ لأن الدين يمنع من عتقه، فكان بطلان العقد أحسن.
والثاني: يصح الشراء، ولا يعتق.
والثالث: يعتق عليه، وتكون ديون الغرماء في ذمة السيد.
وقال أبو حنيفة: (إن لم يكن دفع إليه المال وإنما أذن له في التجارة.. صح الشراء، وعتق على مولاه، وإن كان دفع إليه مالا.. لم يصح الشراء ورد على مولاه).
دليلنا: أنه إذن مطلق في الشراء، فلم يتناول من يعتق على الآذن، كما لو دفع إليه مالا.

.[مسألة: اكتساب العبد ملك لسيده إلا ما ملكه إياه]

إذا اكتسب العبد مالا، بأن احتش أو اصطاد، أو عمل في معدن، فأخذ منه مالا، أو اتهب مالا، أو أُوصي له به، فقبله.. فإن العبد لا يملكه ما لم يملكه السيد، بلا خلاف على المذهب، وإنما يدخل ذلك في ملك السيد.
وقال مالك: (يدخل في ملك العبد، وللسيد أن ينتزعه منه، فإن عتق قبل ينتزعه منه.. استقر ملك العبد عليه). وبه قال داود، وأهل الظاهر، وإسحاق، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، ويأتي الدليل عليهم.
فأما إذا ملكه السيد مالا.. فهل يملكه؟ فيه قولان:
(الأول): قال في القديم: (يملكه)؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعتق عبدا وله مال.. فمال العبد له، إلا أن يستثنيه السيد، فيكون له».
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من باع عبدا وله مال.. فماله للبائع، إلا أن يشترطه
المبتاع». فأضاف إليه المال، وحقيقة الإضافة تقتضي الملك إذا كانت الإضافة إلى من هو من أهل الملك، ولأنه آدمي حي، فملك المال، كالحر.
و(الثاني): قال في الجديد: (لا يملك). وبه قال أبو حنيفة، والثوري، والرواية الأخرى عن أحمد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] (النحل: 75). فنفى قدرته على شيء، فلو قلنا: إنه يملك.. لأثبتنا له قدرة على ما يملك، ولأنه سبب يملك به المال، فلم يملك به العبد، كالإرث.
وأما الخبر الأول: فلا يعرف.
وأما الثاني: ففيه دليل على: أنه لا يملك؛ لأنه قال: (فماله للبائع). فلو ملكه العبد.. لما جعله للبائع، فدل على: أن إضافة الملك إليه إنما هي إضافة مجاز، لا أنها إضافة تقتضي الملك.
إذا ثبت هذا: فإن للقولين فوائد.
منها: إذا ملكه السيد نصابا من المال، فإن قلنا بقوله الجديد.. فالزكاة فيه على السيد؛ لأن ملكه لم يزل عنه. وإن قلنا بالقديم.. لم تجب الزكاة فيه على السيد؛ لأنه قد زال ملكه عنه، ولا على العبد؛ لأن ملكه ضعيف.
ومنها: إذا ملكه السيد جارية، قلنا بالجديد.. لم يجز للعبد وطؤها؛ لأنه لا يملكها. وإن قلنا بالقديم، فإن أذن له السيد في وطئها.. جاز له وطؤها، وإن لم يأذن له في وطئها.. لم يجز له وطؤها.
ومنها: إذا وجبت على العبد كفارة، فإن قلنا بالجديد.. لم يجز له أن يكفر بالإطعام ولا بالكسوة؛ لأنه لا يملك ذلك، بل يكفر بالصوم. وإن قلنا بالقديم.. جاز له أن يكفر بالإطعام والكسوة، ولا يكفر بالعتق بكل حال؛ لأن العتق يتضمن الولاء، والعبد ليس ممن يثبت له الولاء.
ومنها: إذا ملكه السيد مالا، ثم باعه وماله، فإن قلنا بقوله الجديد.. لم يصح البيع حتى يكون ماله معلوما عند المتبايعين؛ لأنهما مالان مبيعان. فإن كان ماله دراهم، فباع العبد وماله بدراهم، أو كان ماله دنانير، فباعه وماله بدنانير.. لم يصح البيع؛ لأن ذلك ربا، وإن كان ماله دنانير، فباع العبد وماله بدراهم، أو كان ماله دراهم، فباع العبد وماله بدنانير.. فعلى القولين فيمن جمع بين بيع وصرف. وإن قلنا بقوله القديم، واشترط المبتاع ماله.. صح البيع فيهما وإن كان المال مجهولا عندهما، أو عند أحدهما؛ للخبر.
واختلف أصحابنا في تعليله:
فمنهم من قال: إنما صح ذلك؛ لأن البيع ينصرف إلى العبد، وأما ماله.. فهو تابع له، فلم تؤثر الجهالة فيه، كما لا تؤثر الجهالة في طي الآبار، وأساس الحيطان، وسقوف البيوت، إلا أنه إذا باع العبد بدراهم، وكان ماله دراهم، أو باعه بدنانير، وكان ماله دنانير.. لم يصح البيع على هذا التعليل؛ لأن الربا يحرم في التابع، كما يحرم في المتبوع.
ومنهم من قال: إنما يصح البيع فيهم وإن كان ماله مجهولا؛ لأن ماله غير مبيع، بل يبقى على ملك العبد.
فعلى هذا: يصح أن يبيع العبد وماله إن كان دراهم بدراهم، وإن كان دنانير بدنانير، وهذا التعليل هو الأصح؛ لأن الشافعي قال في القديم: (وعاب علينا بعض الناس، فقال: إنكم تجوزون أن يشتري عبدا ومعه ألفا درهم بألف درهم، فيقبض المشتري الثمن بأحد الألفين، ويسلم له العبد والألف الآخر)، فالتزم الشافعي السؤال، وتكلم عليه، فدل على: أن ذلك يصح على القديم، وهذا لا يستقيم إلا على هذه العلة.

.[فرع: اشتراط المبتاع ومال العبد]

إذا اشترى عبدا، وله مال، وقلنا: يملكه العبد، فاشترطه المبتاع مع العبد.. كان للمشتري أن ينتزع المال منه، فإن انتزعه منه، وأتلفه، ثم وجد بالعبد عيبا.. لم يكن له رده.
وقال داود: (يرد العبد وحده). وهذا ليس بصحيح؛ لأن العبد إذا كان ذا مال تكون قيمته أكثر، فتلف المال ينقص من قيمته، فلم يجز رده مع ذلك. والله أعلم.

.[كتاب المساقاة]

تجوز المساقاة على النخل، وهي: أن يدفع الرجل نخله إلى رجل ليعمل عليها، وتكون الثمرة بينهما على ما يشترطان.
وإنما سيمت بذلك؛ لأن أكثر عمل أهل الحجاز على النخل السقي من الآبار، فسميت بذلك.
وممن قال بصحة المساقاة: أبو بكر، وعمر، وسعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وأبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة وزفر: (لا تصح المساقاة).
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «افتتح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر على أن له الأرض وكل صفراء أو بيضاء - يعني: الذهب والفضة - فقالوا: نحن أعلم بالأرض منكم، فأعطونا على أن لنا النصف، ولكم النصف، فأعطاهم، فلما كان وقت الثمرة.. بعث إليهم عبد الله بن رواحة ليحزر الثمرة، فحزرها عليهم، فقالوا: يا ابن رواحة، أكثرت علينا، فقال: إن شئتم.. فلكم، وضمنتم نصيب المسلمين، وإن شئتم.. فلي، وأضمن لكم نصيبكم، فقالوا: هذا هو الحق، وبه قامت السماوات».
وروي: «أن عبد الله بن رواحة خرص عليهم أربعين ألف وسق، فكان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها عشرون ألفا، ولهم عشرون ألفا».
وروى ابن عمر: (أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساقى أهل خيبر على تلك الأصول بالشطر).
وتجوز المساقاة على الكرم، وقال داود: (لا تجوز المساقاة على الكرم).
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من النخل والشجر».
ولأن الكرم شجر تجب الزكاة في ثمرته، فجازت المساقاة عليه، كالنخل.
وإن دفع إليه وديا مقلوعا، وقال: اغرسه، وقد ساقيتك عليه.. لم يصح؛ لأنها مساقاة بصفة، ولأن المساقاة إنما تصح على أصل ثابت وهذا خشب. وإن كان مغروسا وقد علق، فساقاه على مدة يحمل إليه.. صح؛ لأنه بالعمل عليه يحصل الثمر، كما يحصل بالعمل على النخل.
و(الودي) - بكسر الدال وتشديد الياء -: هو فسيل النخل.
وكذلك: تصح المساقاة على صغار الكرم إذا غرس وعلق إلى وقت يحمل فيه.
ولا تجوز المساقاة على البقول، والقصب الفارسي، والبطيخ، والقثاء، والتوت الذكر الذي ثمرته الورق؛ لأنها كالزرع، فلم تجز المساقاة عليها، كما لا تجوز المخابرة على الزرع. وهل تصح المساقاة على سائر الأشجار المثمرة، كالتين، والتفاح، والمشمش، والرمان، والسفرجل، والتوت الشامي؟ فيه قولان:
الأول: قال في القديم: (يصح). وهو قول مالك، وأبي يوسف، ومحمد؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من النخل والشجر». و(الشجر): اسم لكل شجرة مثمرة، ولأنها أشجار مثمرة، فصحت المساقاة عليها، كالنخل والكرم.
والثاني: قال في الجديد: (لا يصح)؛ لأنها أشجار لم تجب في نمائها الزكاة، فلم تصح المساقاة عليها، كالخلاف، والقصب الفارسي. وأما الخبر: فمحمول على الشجر الذي كان بخيبر، ولم يكن بها غير النخل والكرم. وهل تصح المساقاة على الثمرة الظاهرة؟ ينظر فيها:
فإن كان قد بدا الصلاح فيها.. لم تصح المساقاة عليها، قولا واحدا؛ لأنها قد استغنت عن عمل يكون فيه زيادتها وتنميتها.
وإن ظهرت ولم يبد فيها الصلاح.. فهل تصح المساقاة عليها؟ فيه قولان:
قال في "الأم" [3/238] (تصح). وبه قال مالك؛ لأنه إذا جازت المساقاة عليها قبل ظهورها.. فبعد ظهورها أولى.
وقال في "البويطي ": (لا يصح)؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من ثمر وزرع». فذكر على ما يخرج لا على ما خرج، ولأن الثمرة إذا خرجت.. فقد حصل المقصود، فصار ذلك بمثابة أن يقارضه على المال بعد ظهور الربح. هذا نقل بعض أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في "الإبانة": ق \ 325] إذا ظهرت الثمرة ولم يبد فيها الصلاح.. صحت المساقاة فيها، وجها واحدا، وإن ظهرت وبدا فيها الصلاح.. فهل تصح المساقاة عليها؟ فيه وجهان.

.[مسألة: تعيين حائط المساقاة شرط]

وإن قال: ساقيتك على أحد هذين الحائطين.. لم يصح، كما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين.
وإن ساقاه على حائط له معين، إلا أن العامل لم يره.. فقد اختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: فيها قولان، كما لو اشترى عبدا معيبا لم يره.
ومنهم من قال: لا يصح، قولا واحدا؛ لأن المساقاة معقودة على الغرر، فلا يجوز أن يضاف إليها الغرر بعدم الرؤية.

.[مسألة: تأقيت المساقاة شرط]

ولا تصح المساقاة إلى مدة معلومة؛ لأنها عقد لازم، فلو جاز عقدها إلى غير مدة.. لاستحقها العامل على الدوام، وهذا حكم الأملاك.
إذا ثبت هذا: فإن ساقاه على نخل أو ودي إلى مدة يحمل فيها بحكم الغالب..
صح؛ لأن أكثر ما فيه أن العمل كثير، والنصيب قليل، وذلك لا يمنع صحة العقد، كما لو ساقاه على جزء من ألف جزء من الثمرة، فإن حملت النخل.. استحق العامل ما شرط له، وإن لم تحمل لآفة.. لم يستحق العامل شيئا؛ لأن في العقد الصحيح لا يستحق غير ما شرط له.
وإن ساقاه إلى مدة لا تحمل فيها في العادة، مثل: أن كانت تحمل إلى خمس سنين، فساقاه إلى أربع سنين.. لم تصح؛ لأن المقصود في المساقاة أن يشتركا في الثمرة، وذلك غير موجود في هذه المساقاة.
فإن عمل العامل.. فهل يستحق الأجرة؟
قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 326] إن كان العامل لا يعلم أنها تحمل لأوان تلك المدة.. استحق الأجرة، وجها واحدا، وإن كان يعلم أنها لا تحمل.. ففيه وجهان:
قال المزني، وعامة أصحابنا: لا يستحق؛ لأنه دخل على أنه لا يأخذ في مقابلة عمله أجرة، فصار متطوعا بالعمل.
وقال أبو العباس: يستحق أجرة المثل؛ لأن عقد المساقاة يقتضي عوضا، فلا يجوز أن يخلو من العوض، كالوطء في النكاح.
وإن ساقاه إلى مدة قد تحمل فيها وقد لا تحمل، وليس أحدهما بأولى من الآخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: تصح المساقاة؛ لأنه ساقاه إلى مدة قد تحمل فيها، فصح، كما لو ساقاه إلى مدة قد تحمل فيها في الغالب.
فعلى هذا: إذا عمل العامل، فإن حمل النخل.. استحق العامل ما شرط له من الثمرة، وإن لم يحمل.. فلا أجرة له؛ لأن العقد صحيح، فلا يستحق غير ما شرط له.
والثاني: لا تصح المساقاة؛ لأن المساقاة إنما تصح إلى مدة تحمل فيها في الغالب، وهذه المدة لا تحمل فيها في الغالب.
فعلى هذا: إذا عمل.. استحق أجرة المثل، وجها واحدا؛ لأنه لم يرض أن يعمل إلا بعوض.